فصل: تفسير الآيات (2- 3):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.سورة الطلاق:

.تفسير الآية رقم (1):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)}
{يأيُّهَا النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء} تخصيصُ النداءِ بهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ مع عُمومِ الخطابِ لأمتِهِ أيضاً لتشريفه عليهِ الصلاةُ والسلامُ وإظهارِ جلالةِ منصبِهِ، وتحقيقِ أنَّه المخاطبُ حقيقةً، ودخولِهِم في الخطابِ بطريقِ استتباعِهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ إيَّاهُم. وتغليبِهِ عليهِم لاَ لأنَّ نداءَهُ كندائِهِم، فإن ذلكَ الاعتبارَ لو كانَ في حيزِ الرعايةِ لكانَ الخطابُ هو الأحقَّ بهِ لشمولِ حُكمهِ للكلِّ قطعاً والمَعْنَى إذا أردتُم تطليقهنَّ وعزمتُم عليهِ كما في قولِهِ تعالَى: {إِذَا قُمتُم إِلَى الصلاة} {فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أي مستقبلاتٍ لها كقولكَ أتيتُهُ لليلةٍ خلتْ من شهرِ كَذَا فإن المرأةَ إذا طُلقَتْ في طُهرٍ يعقبُهُ القُرْءُ الأولُ من أقرائِهَا فقد طُلقَتْ مستقبلةً لعدتِهَا، والمرادُ أن يُطلَّقنَ في طُهْرٍ لم يقعْ فيهِ جماعٌ ثم يُخلَّينَ حتى تنقضيَ عدتُهنَّ وهَذا أحسنُ الطلاقِ وأدخلُهُ في السنةِ {وَأَحْصُواْ العدة} واضبِطُوها وأكملوها ثلاثةَ أقراءٍ كواملَ {واتقوا الله رَبَّكُمْ} في تطويلِ العدةِ عليهنَّ والإضرارِ بهنَّ. وفي وصفِهِ تعالَى بربوبيتِهِ لهم تأكيدٌ للأمر ومبالغةٌ في إيجابِ الاتقاءِ {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ} من مساكنِهِنَّ عندَ الفراقِ إلى أنْ تنقضيَ عِدتُهُنَّ، وإضافتُهَا إليهنَّ وهيَ لأزواجهنَّ لتأكيدِ النَّهيِ ببيانِ كمالِ استحقاقهِنَّ لسُكنَاهَا كأنها أملاكهُنَّ {وَلاَ يَخْرُجْنَ} ولو بإذنٍ منكُم فإنَّ الإذنَ بالخروجِ في حُكمِ الإخراجِ، وقيلَ المَعْنَى لا يخرجنَّ باستبدادٍ منهنَّ أما إذَا اتفقَا على الخروجِ جازَ إذِ الحقُّ لا يعدوهُمَا {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ} استثناءٌ من الأولِ قيلَ هيَ الزنا فيخرجنَ لإقامة الحدِّ عليهنَّ وقيلَ إلا أنْ يبذُونَ على الأزواجِ فيحلُّ حينئذٍ إخراجهُنَّ، ويؤيدُهُ قراءةُ إلا أنْ يفحُشْنَ عليكُم أو من الثانِي للمبالغةِ في النَّهيِ عن الخروجِ ببيانِ أنَّ خروجَهَا فاحشةٌ {وَتِلْكَ} إشارةٌ إلى ما ذُكرَ من الأحكامِ وما في إسمِ الإشارةِ من مَعْنَى البُعْدِ مع قُربِ العهدِ بالمشارِ إليهِ للإيذانِ بعلوِّ درجتِهَا وبعدِ منزلتِهَا {حُدُودَ الله} التي عيَّنَهَا لعباده {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله} أي حدودَهُ المذكورةَ بأنْ أحلَّ بشيءٍ منها على أنَّ الإظهارَ في حيزِ الإضمارِ لتهويلِ أمرِ التعدِّي، والإشعارِ بعلةِ الحكمِ في قولِهِ تعالَى: {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} أي أضرَّ بهَا، وتفسيرُ الظلمِ بتعريضِهَا للعقابِ يأباهُ قولُهُ تعالَى: {لا تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} فإنه استئنافٌ مسوقٌ لتعليلِ مضمونِ الشرطيةِ، وقد قالُوا إن الأمرَ الذي يحدثُهُ الله تعالى أنْ يقلبَ قلبَهُ عمَّا فعلَهُ بالتعدِّي إلى خلافِهِ فلابد أن يكونَ الظلمُ عبارةً عن ضررٍ دنيويَ يلحقُهُ بسببِ تعدِّيهِ ولا يُمكنُ تدارُكُهُ أو عنْ مُطلقِ الضررِ الشاملِ للدنيويِّ والأُخرويِّ، ويخُصُّ التعليلُ بالدنيويِّ لكونِ احترازِ الناسِ منهُ أشدَّ واهتمامِهِمْ بدفْعِهِ أَقْوَى. وقولُهُ تعالَى: {لا تَدْرِى} خطابٌ للمتعدِّي بطريقِ الالتفاتِ لمزيدِ الاهتمامِ بالزجرِ عن التعدِّي، لا للنبيِّ عليهِ الصلاةُ والسلامُ كما توهِّمَ، فالمَعْنَى ومن يتعدَّ حدودَ الله فقدْ أضرَّ بنفسِهِ فإنكَ لا تدْرِي أيُّها المتعدِّي عاقبَة الأمرِ لعلَّ الله يحدثُ في قلبكَ بعدَ ذلكَ الذي فعلتَ من التعدِّي أمراً يقتضِي خلافَ ما فعلتَهُ فيبدَّل ببغضِهَا محبةً، وبالإعراضِ عنها إقبالاً إليها ويتسنَّى تَلاَفيهِ رجعةً أو استئنافَ نكاحٍ.

.تفسير الآيات (2- 3):

{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)}
{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} شارفنَ آخرَ عدتِهِنَّ {فَأَمْسِكُوهُنَّ} فراجعوهنَّ {بِمَعْرُوفٍ} بحسنِ معاشرةٍ وإنفاقٍ لائقٍ {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} بإيفاءِ الحقِّ واتقاءِ الضررِ بأنْ يراجعَهَا ثم يُطلقهَا تطويلاً للعدةِ {وَأَشْهِدُواْ ذَوِى عَدْلٍ مّنْكُمْ} عند الرجعةِ والفرقةِ قطعاً للتنازعِ، وهذا أمرُ ندبٍ كما في قولِهِ تعالَى: {وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ} ويُروَى عن الشافعي أنه للوجوبِ في الرَّجعَةِ {وَأَقِيمُواْ الشهادة لِلَّهِ} أيُّها الشهودُ عندَ الحاجةِ خالصاً لوجِهِ تعالَى: {ذلكم} إشارةٌ إلى الحثِّ على الإشهادِ والإقامةِ أو على جميعِ ما في الآيةِ {يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الأخر} إذْ هو المنتفعُ بهِ والمقصودُ تذكيرُهُ وقولُهُ تعالَى: {وَمَن يَتَّقِ الله} إلخ جملةٌ اعتراضيةٌ مؤكدةٌ لما سبقَ منْ وجوبِ مراعاةِ حدودِ الله تعالى بالوعدِ على الاتقاءِ عن تعدِّيها كَما أن ما تقدمَ من قولِهِ تعالَى: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} مؤكدٌ لهُ بالوعيدِ على تعدِّيها فالمعنَى ومنْ يتقَ الله فطلقَ للسنةِ ولم يُضارَّ المعتدةَ ولم يُخرجها من مسكنِهَا واحتاطَ في الإشهادِ وغيرِهِ من الأمورِ {يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} مما عَسَى يقعُ في شأنِ الأزواجِ من الغُمومِ والوقوعِ في المضايقِ ويفرجْ عنه ما يعتريهِ من الكُروبِ {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} أي من وجهٍ لا يخطرُ ببالِهِ ولا يحتسبُهُ ويجوزُ أن يكونَ كلاماً جيءَ بهِ على نهجِ الاستطرادِ عند ذكرِ قولِهِ تعالى: {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بالله} إلى آخرِهِ فالمَعْنَى ومن يتقِ الله في كلِّ ما يأتي وما يذرُ يجعلْ لهُ مخرجاً ومخلصاً من غمومِ الدُّنيا والآخرةِ فيندرجُ فيهِ ما نحنُ فيهِ اندراجاً أولياً. عن النبيِّ عليه الصلاةُ والسلامُ أنه قرأَها فقالَ: «مخرجاً من شبهاتِ الدُّنيا ومن غمراتِ الموتِ ومن شدائدِ يومِ القيامةِ» وقالَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ: «إني لأعلمُ آيةً لو أخذَ الناسُ بها لكفتْهُم» {ومن يتقِ الله} فما زال يقرؤها ويعيدُهَا. ورُوِيَ أن عوفَ بنَ مالكٍ الأشجعيَّ أسرَ المشركونَ ابنَهُ سالماً فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أسرَ ابنِي وشكَا إليهِ الفاقةَ» فقالَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ: «اتقِ الله وأكثِرْ قولَ لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله العليِّ العظيمِ» ففعلَ فبينَا هُو في بيتِهِ إذ قرعَ ابنُهُ البابَ ومعهُ مائةٌ من الإبلِ غفلَ عنها العدوُّ فاستاقَهَا فنزلتْ.
{وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ} أيْ كافيهِ في جميعِ أمورِهِ {إِنَّ الله بالغ أَمْرِهِ} بالإضافةِ أي منفذُ أمرِهِ وقرئ بتنوينِ بالغُ ونصبِ أمرِهِ أيْ يبلغُ ما يريدُهُ لا يفوتُهُ مرادٌ ولا يُعجزُه مطلوبٌ، وقرئ برفعِ أمرِهِ على أنَّه مبتدأٌ وبالغٌ خبرٌ مقدمٌ، والجملةُ خبرُ إنَّ أو بالغٌ خبر إنَّ، وأمرُهُ مرتفعٌ بهِ على الفاعليةِ أي نافذ أمرُهُ. وقرئ: {بالغاً أمرَهُ} على أنَّه حالٌ وخبرُ إنَّ قولُهُ تعالَى: {قَدْ جَعَلَ الله لِكُلّ شيء قَدْراً} أي تقديراً وتوقيتاً أو مقداراً وهُو بيانٌ لوجوبِ التوكلِ عليهِ تعالَى، وتفويضُ الأمرِ إليهِ لأنَّه إذا علمَ أنَّ كلَّ شيءٍ من الرزقِ وغيرِه لا يكونُ إلا بتقديرِه تعالَى لا يبقى إلا التسليمُ للقدرِ والتوكلُ على الله تعالى.

.تفسير الآيات (4- 5):

{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)}
{واللائى يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نّسَائِكُمْ} لِكبرهنَّ وقد قدَّرُوه بستينَ سنة وبخمسٍ وخمسينَ {إِنِ ارتبتم} أي شككتُم وجهِلْتُم كيفَ عدّتُهُن {فَعِدَّتُهُنَّ ثلاثة أَشْهُرٍ واللائى لَمْ يَحِضْنَ} بعدُ لصغرِهِنَّ أي فعدَّتهنَّ أيضاً كذلكَ فحذفَ ثقةً بدلالةِ ما قبلَهُ عليهِ {وأولات الأحمال أَجَلُهُنَّ} أي مُنْتهى عدتِّهِنَّ {أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} سواءً كُنَّ مطلقاتٍ أو مُتوفيًّ عنهُنَّ أزواجُهُنَّ وقد نُسخَ بهِ عمومُ قولِه تعالَى: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أزواجا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} لتراخِي نزولِهِ عن ذلكَ لما هُو المشهورُ من قولِ ابنِ مسعودٍ رضيَ الله عنْهُ: من شاءَ باهلتُه أنَّ سورةَ النساءِ القُصْرى نزلتْ بعدَ التي في سورةِ البقرةِ، وقد صحَّ أن سُبيعَة بنتَ الحارثَ الأسلميةَ ولدتْ بعدَ وفاةِ زوجِهَا بليالٍ فذكرتْ ذلكَ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقالَ لَهَا قدْ حللتِ فتزوَّجِي {وَمَن يَتَّقِ الله} في شأنِ أحكامِهِ ومراعاةِ حقوقِهَا {يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} أي يُسْهلْ عليهِ أمرَهُ ويوفِّقْهُ للخيرِ. {ذلك} إشارةٌ إلى ما ذُكِرَ منَ الأحكامِ، وما فيهِ من مَعْنَى البُعدِ مع قُرب العهدِ بالمُشارِ إليهِ للإيذانِ ببُعدِ منزلتِهِ في الفضلِ. وإفرادُ الكافِ معَ أن الخطابَ للجمعِ كما يفصحُ عنه قولُه تعالى: {أَمْرُ الله أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ} لِما أنها لمجردِ الفرقِ بين الحاضرِ والمنقضِي لا لتعيينِ خصوصيةِ المخاطبينَ وقد مرَّ في قولِه تعالَى: {ذلك يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بالله} من سورةِ البقرةِ {وَمَن يَتَّقِ الله} بالمحافظةِ على أحكامِهِ {يُكَفّرْ عَنْهُ سيئاته} فإنَّ الحسناتِ يُذهبنَ السيئاتِ {وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} بالمضاعفةِ.

.تفسير الآيات (6- 9):

{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9)}
وقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم} استئنافٌ وقعَ جواباً عن سؤالٍ نشأَ مما قبلَهُ من الحثِّ عَلى التَّقوى كأنَّه قيلَ كيفَ نعملُ بالتَّقوى في شأنِ المعتداتِ فقيلَ أسكنوهنَّ مسكناً من حيثُ سكنتُم أي بعضَ مكانٍ سكناكم. وقولُه تعالَى: {مّن وُجْدِكُمْ} أي من وُسعِكم أي مما تطيقونَهُ عطفُ بيانٍ لقولِهِ من حيثُ سكنتُم وتفسيرٌ لهُ.
{وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ} أيْ في السُّكنى {لِتُضَيّقُواْ عَلَيْهِنَّ} وتُلْجئوهنَّ إلى الخروجِ {وَإِن كُنَّ} أي المطلقاتُ {أولات حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فيخرُجنَ من العدةِ، أما المُتوفَّى عنهنَّ أزواجُهنَّ فلا نفقةَ لهُنَّ {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ} بعدَ ذلكَ {فَئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} على الإرضاعِ {وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} أي تشاورُوا، وحقيقتُه ليأمرْ بعضُكم بعضاً بجميلٍ في الإرضاعِ والأجرِ ولاَ يكُن من الأبِ مماكسة ولا من الأمِّ مُعاسرةٌ {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ} أي تضايقتُم {فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى} أي فستوجَدُ ولا تُعوزُ مرضعةٌ أُخرى، وفيه معاتبةٌ للأمِّ على المعاسرةِ {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا ءاتَاهُ الله} وإنْ قلَّ أي لينفقْ كُلُّ واحدٍ من الموسرِ والمعسرِ ما يبلغُه وسعُه {لاَ يُكَلّفُ الله نَفْساً إِلاَّ مَا ءاتَاهَا} جَلَّ أو قَلَّ فإنَّه تعالَى لا يكلفُ نفساً إلا وُسعَها وفيهِ تطييبٌ لقلبِ المُعسرِ وترغيبٌ لهُ في بذلِ مجهودِهِ وقد أُكِّدَ ذلكَ بالوعدِ حيثُ قيلَ {سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} أي عاجلاً أو آجلاً. {وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ} أي كثيرٌ من أهلِ قريةٍ {عَتَتْ} أي أعرضتْ {عَنْ أَمْرِ رَبّهَا وَرُسُلِهِ} بالعُتوِّ والتمردِ والعنادِ {فحاسبناها حِسَاباً شَدِيداً} بالاستقصاءِ والتنفيرِ والمناقشةِ في كلِّ نقيرٍ وقِطْميرٍ {وعذبناها عَذَاباً نُّكْراً} أي مُنكراً عظيماً. وقرئ: {نكراً}، والمرادُ حسابُ الآخرةِ وعذابُها، والتعبيرُ عنهما بلفظِ الماضِي للدلالةِ على تحققِهِما كما في قولِه تعالَى: {وَنَادَى أصحاب الجنة} {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عاقبة أَمْرِهَا خُسْراً} هائلاً لا خُسَر وراءَهُ.

.تفسير الآيات (10- 11):

{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)}
{أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} تكريرٌ للوعيدِ وبيانٌ لكونِه مترقباً كأنَّه قيلَ أعدَّ الله لهم هَذا العذابَ {فاتقوا الله ياأولى الألباب} ويجوزُ أن يرادَ بالحسابِ استقصاءُ ذنوبهِم وإثباتُها في صحائفِ الحفظةِ وبالعذابِ ما أصابَهُم عاجلاً، وقد جُوِّزَ أن يكونَ عتتْ وما عُطفَ عليهِ صفةً للقريةِ وأعدَّ لهم جواباً لقولِه تعالَى كأَيِّن {الذين كَفَرُواْ} منصوبٌ بإضمارِ أعنِي بياناً للمُنادَى أو عطفُ بيانٍ لهُ أو نعتٌ، وفي إبدالهِ منهُ ضعفٌ لتعذرِ حلولِهِ محلَّه. {قَدْ أَنزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْراً} هو جبريلَ عليهِ السلامُ سمِّيَ بهِ لكثرةِ ذكرِهِ أو لنزولِه بالذِكر الذي هُو القرآنُ كما ينبىءُ عنْهُ إبدالُ قوله تعالى: {رَسُولاً} منْهُ أو لأنَّه مذكورٌ في السمواتِ وفي الأممِ، أو أُريدَ بالذكرِ الشرفُ كما في قولِه تعالَى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} كأنَّه في نفسِه شرفٌ إما لأنه شرفٌ للمنزلِ عليهِ وإما لأنَّه هو مجدٌ وشرفٌ عند الله تعالَى كقولِه تعالَى: {عِندَ ذِى العرش مَكِينٍ} أو هُو النبيُّ عليهِ الصلاةُ والسلامُ وعليهِ الأكثرُ عبرَ عنهُ بالذكرِ لمواظبتِهِ على تلاوةِ القرآنِ أو تبليغِهِ والتذكيرِ بهِ وعبرَ عن إرسالِهِ بالإنزالِ بطريقِ الترشيحِ أو لأنه مسببٌ عن إنزالِ الوَحيِ إليهِ، وأُبدلَ منهُ رسولاً للبيانِ أو هو القرآنُ ورسولاً منصوبٌ بمقدرٍ مثلُ أرسلَ أوْ بذكرَا على إعمالِ المصدرِ المنونِ أو بدلٌ منْهُ على أنَّه بمعنى الرسالةِ وقولُه تعالى: {يَتْلُو عَلَيْكُمْ ءايات الله مبينات} نعتٌ لرسولاً وآياتُ الله القرآنُ ومبيناتٍ حالٌ منها أي حالَ كونِهَا مبيناتٍ لكُم ما تحتاجونَ إليهِ من الأحكامِ وقرئ: {مبيَّناتٍ} أي بينَها الله تعالَى لقولِه تعالَى: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الأيات} واللامُ في قولِه تعالَى: {لّيُخْرِجَ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} متعلقةٌ بيتلُو أو بأنزلَ وفاعلُ يخرجَ على الأولِ ضميرُ الرسولِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ أو ضميرُ الجلالةِ، والموصولِ عبارةٌ عنِ المؤمنينَ بعد إنزالهِ أي ليحصلَ لهم الرسولُ أو الله عزَّ وعلاَ ما هُم عليهِ الآنَ من الإيمانِ والعملِ الصالحِ أو ليخرجَ من علِمَ أو قدَّرَ أنَّه سيؤمنُ {مِنَ الظلمات إِلَى النور} من الضلالةِ إلى الهُدَى {وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صالحا} حسبما بُينَ في تضاعيفِ ما أُنزلَ من الآياتِ المبيناتِ {يُدْخِلْهُ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} وقرئ: {نُدْخِلْهُ} بالنون وقولُه تعالَى: {خالدين فِيهَا أَبَداً} حالٌ من مفعولِ يُدخلْهُ والجمعُ باعتبارِ مَعْنَى مَنْ كما أنَّ الإفرادَ في الضمائرِ الثلاثةِ باعتبارِ لفظِها. وقولُه تعالَى: {قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ رِزْقاً} حالٌ أُخرى منْهُ أو من الضميرِ في خالدينَ بطريقِ التداخلِ وإفرادُ ضميرِ لهُ قد مرَّ وجهُه وفيهِ مَعْنَى التعجبِ والتعظيمِ لما رزقَهُ الله المؤمنينَ من الثوابِ.

.تفسير الآية رقم (12):

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)}
{الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سموات} مبتدأٌ وخبرٌ {وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ} أي خلقَ من الأرضِ مثلَهُنَّ في العددِ. وقرئ: {مثلهُن} بالرفعِ على أنه مبتدأٌ ومِنَ الأرضِ خبرُهُ واختلفَ في كيفيةِ طبقاتِ الأرضِ فالجمهورُ على أنها سبعُ أرضينَ طباقاً بعضُها فوقَ بعضٍ بين كلِّ أرضٍ وأرضٍ مسافةٌ كما بينَ السماءِ والأرضِ وفي كلِّ أرضٍ سكانٌ من خلقِ الله تعالَى وقالَ الضحاكُ مطبقةٌ بعضُها فوقَ بعضٍ من غيرِ فتوقٍ بخلافِ السمواتِ قال القرطبيُّ والأولُ أصحُّ لأنَّ الأخبارَ دالةٌ عليهِ كما رَوَى البخاريُّ وغيرُه مِنْ «أنَّ كعباً حلفَ بالذي فلقَ البحرَ لمُوسى أنَّ صُهيباً حَدَّثهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يرَ قريةً يريدُ دخولَها إلا قالَ حينَ يراهَا اللَّهم ربِّ السمواتِ السبعِ وما أظللنَ وربَّ الأرضينَ السبعِ وما أقللنَ وربَّ الشياطينِ وما أضللنَ وربَّ الرياحِ وما أذرينَ نسألُكَ خيرَ هذه القريةِ وخيرَ أهلِهَا ونعودُ بكَ من شرِّها وشرِّ مَنْ فيهَا» وعن ابنِ عباسٍ رضيَ الله عنهُما أنَّ نافعَ بنَ الأزرقِ سأَلهُ هلْ تحتَ الأرضينَ خلقٌ قالَ نعمْ قالَ فما الخلقُ قال إما ملائكةٌ أو جنٌّ. قال الماورديُّ وعَلى هَذا تختصُّ دعوةُ الإسلامِ بأهلِ الأرضِ العُليا دونَ مَنْ عداهُم وإنْ كانَ فيهنَّ منْ يعقلُ منْ خلقٍ وفي مشاهدتِهِم السماءَ واستمدادِهِم الضوءَ منهَا قولانِ أحدُهما أنهم يشاهدونَ السماءَ من كُلِّ جانبٍ من أرضِهِم ويستمدونَ الضياءَ منهَا والثاني أنهم لا يشاهدونَ السماءِ وأنَّ الله تعالَى خلقَ لهم ضياءً يشاهدُونَهُ. وحَكَى الكلبيُّ عن أبي صالحٍ عن ابنِ عباسٍ رضيَ الله عنهُما أنها سبعُ أرضينَ متفرقةٌ بالبحارِ وتُظِلُّ الجميعَ السماءُ {يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ} أي يَجْرِي أمرُه وقضاؤُه بينهنَّ وينفذُ ملكُهُ فيهنَّ، وعن قَتَادَةَ: في كلِّ سماءٍ وفي كلِّ أرضٍ خلقٌ من خلقِه وأمرٌ من أمرِه وقضاءٌ من قضائِه، وقيلَ هو مَا يُدبرُ فيهنَّ من عجائبِ تدبيرِه. وقرئ: {ينزلُ الأمرُ} {لّتَعْلَمُواْ أَنَّ الله على كُلّ شيء قَدِيرٌ} متعلقٌ بخلقَ أو بيتنزلُ أو بمضمرٍ يعمُّهمَا أيْ فعلَ ذلكَ لتعلَمُوا أنَّ منْ قدرَ على ما ذُكرَ قادرٌ على كلِّ شيءٍ {وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلّ شيء عِلْمَا} لاستحالةِ صدورِ الأفاعيلِ المذكورةِ ممن ليسَ كذلكَ ويجوزُ أن يكونَ العاملُ في اللامِ بيانَ ما ذُكرَ من الخلق وتنزّلِ الأمرِ أيْ أَوْحى ذلكَ وبيَّنهُ لتعلمُوا بما ذكرَ من الأمورِ التي تشاهدونَها والتي تتلقَّونها من الوحي من عجائبِ المصنوعاتِ أنه لا يخرجُ عن قدرتِهِ وعلمِهِ شيءٌ ما أصلاً وقرئ: {ليعلمُوا}. عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «منْ قرأَ سورةَ الطلاقِ ماتَ على سنةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم».